البجعة الرمادية- الذكاء الاصطناعي الصيني يُربك الأسواق ويهدد الهيمنة الأمريكية

المؤلف: جيرار ديب09.21.2025
البجعة الرمادية- الذكاء الاصطناعي الصيني يُربك الأسواق ويهدد الهيمنة الأمريكية

أصدرت البحرية الأمريكية تعليمات مشددة لأفرادها، بحسب ما أفادت شبكة CNBC، تحظر عليهم منعًا باتًا استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي المطورة من قبل شركة "ديب سيك" الصينية، وذلك "تحت أي ظرف كان".

هذا التحذير المُلح، والذي تم تعميمه عبر البريد الإلكتروني يوم الجمعة الموافق 24 يناير/كانون الثاني الماضي، جاء تحت عنوان لافت هو "تنبيه لأفراد الطاقم"، مشيرًا بوضوح إلى "هواجس أمنية وأخلاقية جوهرية تتعلق بمصدر هذا النموذج وكيفية استخدامه".

ويعكس هذا الإجراء الاحترازي الصادر عن البحرية الأمريكية التطور المذهل الذي حققته شركة "ديب سيك" الصينية الناشئة، والتي تمكنت من ابتكار نظام ذكاء اصطناعي يُضاهي، بل ويتفوق في بعض النواحي، على أنظمة الشركات الأمريكية الرائدة في هذا المجال، وذلك على الرغم من الموارد المحدودة التي تمتلكها مقارنة بالإنفاق الهائل لعمالقة التكنولوجيا.

وتعود جذور هذا التطور المثير للقلق إلى يوم 20 يناير/كانون الثاني الماضي، عندما قرر ليانغ ويتفينغ، الخبير السابق في إدارة صناديق الاستثمار في الصين، تخصيص استثمارات ضخمة في مجال الذكاء الاصطناعي. ونجح في الحصول على 10 آلاف شريحة متطورة من إنتاج شركة إنفيديا، ليطلق العنان لنموذج الذكاء الاصطناعي الذي أثار دهشة وارتباك كبرى شركات التكنولوجيا الأمريكية.

ولا تزال هذه الشركات في حالة من التخبط والتردد حول كيفية التعامل مع "ديب سيك"، حيث يميل أغلبها إلى التقليل من شأن هذا التطور، معتبرين أنه لن يؤثر بشكل كبير على المنافسة، خاصة وأن التقارير تشير إلى وجود ثغرات كبيرة في النموذج الصيني الوليد.

في المقابل، دافع مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي لشركة ميتا، عن استثمار شركته مبلغًا ضخمًا قدره 65 مليار دولار في مجال الذكاء الاصطناعي، مؤكدًا استمرار هذا التوجه في ظل احتدام المنافسة، وخاصة بعد ظهور النموذج الصيني. وأشار زوكربيرغ إلى أن هناك الكثير مما يمكن تعلمه من "ديب سيك"، إلا أنه يرى أنه من السابق لأوانه إصدار حكم قاطع حول تأثيره على مستقبل الذكاء الاصطناعي.

ما صرح به زوكربيرغ يمثل ما أسماه المفكر الأمريكي من أصول لبنانية، نسيم طالب، "البجعة الرمادية"، وهو تعبير يصف الأزمة العميقة التي قد تضرب الأسواق العالمية المتفائلة بالذكاء الاصطناعي، خاصة في أعقاب ظهور "ديب سيك".

وقد صدقت توقعات طالب في كتابه الشهير "البجعة السوداء" حول وقوع الأزمة المالية العالمية عام 2008، استنادًا إلى نظريته المعروفة باسم "البجعة السوداء"، والتي تركز على صعوبة التنبؤ بالأحداث المفاجئة وغير المتوقعة. وتستند هذه النظرية إلى الاعتقاد السائد بأن جميع البجع أبيض اللون، وأن ظهور البجع الأسود هو حدث نادر ومفاجئ.

وقد تحقق ذلك بالفعل مع اكتشاف البجع الأسود في أستراليا الغربية، وهو ما شكل حدثًا غير متوقع قلب المفاهيم السائدة. فهل يصيب طالب هذه المرة في رؤيته حول "البجعة الرمادية"، حيث توقع حدوث انهيارات مالية كبيرة في عالم الشركات التكنولوجية الأمريكية، وهو ما قد يمهد الطريق لحرب محتملة بين الصين والولايات المتحدة؟

يكمن الفرق بين مفهومي "البجعة السوداء" و"البجعة الرمادية" في أبعد من مجرد اختلاف اللون، حيث يمتد ليشمل المضمون أيضًا. فمن وجهة نظر نسيم طالب، يميل المراقب الأمريكي إلى التركيز على المخاطر التي يمكن التنبؤ بها جزئيًا في الأسواق، ولكنه في الغالب يتجاهلها أو يقلل من شأنها، مما يخلق منطقة رمادية ضبابية.

والسبب في ذلك هو أن الأسواق قد تكتشف فجأة أنها أخطأت في توقعاتها وحساباتها، مما قد يؤدي إلى انهيارات كبرى. وهذا ما حدث بالفعل مع شركة إنفيديا العملاقة، التي شهدت انهيارًا مفاجئًا في 27 يناير/كانون الثاني الماضي، حيث فقدت أكثر من 600 مليار دولار من قيمتها في يوم واحد. ويرى طالب أن هذا الانهيار بمثابة إنذار مبكر لما قد يحدث مستقبلًا من انهيارات في عالم الشركات الغربية.

لا تزال كبرى الشركات الأمريكية تنظر إلى نموذج "ديب سيك" على أنه مجرد ظاهرة صينية مؤقتة تهدف إلى إثارة البلبلة حول شركة أوبن إيه آي، وذلك بهدف تعطيل مشروع "ستار غيت" الذي أطلقه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب للاستثمار المكثف في مجال الذكاء الاصطناعي، وذلك لمنع الصين من التفوق في هذا المجال.

وبغض النظر عما تراه الإدارة الأمريكية وشركاتها، يبدو أن الحكومة الصينية عازمة على دفع شركاتها نحو تحقيق التميز في هذا المجال، ليس فقط بهدف إرباك الأسواق التكنولوجية العالمية، بل كجزء من مساعي مشتركة بين الصين وروسيا لتقويض الهيمنة الغربية على النظام العالمي.

ولهذا السبب، تتجنب الصين أي مواجهة عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة، وهو ما نجحت فيه على مدى سنوات، على الرغم من الاستفزازات الأمريكية المتكررة التي تهدف إلى توريطها في حرب مع تايوان، بعد أن أقدمت واشنطن عمدًا على نقض قانون "الصين الواحدة".

وبدلًا من السير على خطى حليفتها روسيا في شرق أوكرانيا، اتجهت الصين نحو استراتيجية مختلفة تمامًا، وهي زعزعة الأسواق المالية للولايات المتحدة، معتبرة أن هذا هو الخيار الأمثل لردع واشنطن على المستوى العالمي. ويتضمن هذا النهج ضرب هيمنة الشركات الأمريكية التي تسعى إلى تطويق أي شركة صاعدة. وقد تجسد ذلك بوضوح خلال ولاية ترامب الرئاسية الأولى، عندما فرض المزيد من العقوبات على عملاق الاتصالات الصينية "هواوي"، بهدف منعها من منافسة شركات الاتصالات الأمريكية، وعلى رأسها شركة "آبل".

إن ما أحدثته شركة "ديب سيك"، بغض النظر عن التقييمات المتضاربة حول جودته وقدرته على منافسة التكنولوجيا الأمريكية، يمثل بالنسبة للحكومة الصينية "بجعة رمادية" حققت هدفها في عالم الذكاء الاصطناعي. حيث أثار نهجها منخفض التكلفة مخاوف من أن الشركات الأمريكية الكبرى قد ضخت استثمارات مفرطة في تطوير الذكاء الاصطناعي، في حين تقدم الشركة الصينية الناشئة نماذج ذات أداء مماثل وباستثمارات أقل بكثير.

تتفوق الصين في المنافسة الاقتصادية مع الولايات المتحدة، ولذلك قد لا يقتصر الأمر على إطلاق فقاعة في الأسواق المالية، بل قد يتجاوز ذلك إلى إتاحة الفرص لمنافسة حقيقية في عالم التكنولوجيا الرقمية. وقد أعلنت شركة علي بابا الصينية عن إطلاق إصدار جديد من نماذج الذكاء الاصطناعي الخاص بها تحت اسم Qwen 2.5 Max، والذي تعتبره متفوقًا على نموذج "ديب سيك" الصيني، وحتى على نموذج تشات جي بي تي من حيث الأداء، بحسب ما ذكرت وكالة رويترز.

إن ظهور البجعة الرمادية في عالم الذكاء الاصطناعي يضع الولايات المتحدة أمام تحدٍ حقيقي، لم تستطع لغة التهديد بفرض العقوبات مواجهته أو الحد منه. فهل ستضطر واشنطن إلى تغيير أسلوب تعاملها مع الصين، واللجوء إلى لغة الحرب، كخطوة أخيرة لوقف الصعود الصيني المتسارع؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة